لم يكن بعض الجزائريين يعرفون، أو على الأقل، يسمعون عن شيء يسمى "الذكاء الاصطناعي" لولا ما قاله رئيس الجمهورية ردا على بعض ألسنة السوء من الجارة الغربية لبلادنا:" كي شافو الصحراء تاعنا خضراء وتنتج القمح اتهمونا باستخدام الذكاء الاصطناعي.. إذا كان الذكاء الاصطناعي يوكلني القمح مرحبا بيه ! ".
والواقع أن الذكاء الاصطناعي، الذي مضى على ظهور المصطلح في العالم نحو ستين سنة، بات رهانا حقيقيا للجزائر التي بكل ما أوتيت للإنخراط فيه من منطلق قناعتها أن هذا الأمر ليس ترفا أو لعبة لتمضية الوقت، بل هو مجال لا يمكن التغافل عنه أو التخلف فيه عن الركب، بل هو ضرورة عملية و"حتمية تكنولوجية" على حد تعبير أستاذ الاتصال الجماهيري مارشال ماكلوهان.
60 سنة من الوجود
بالعودة إلى البدايات الأولى لما يعرف اليوم بـ"الذكاء الاصطناعي" (AI)، فإن كثيرا من المراجع تنسب ظهوره إلى عالم الحاسوب الأميركي جون مكارثي (1927-2011) الذي صاغه خلال مؤتمر علمي بكلية دارتموث الأميركية للإشارة أقيم عام 1956 حول إمكانية تصميم آلة ذكية قادرة على تقليد ومحاكاة عمل البشر.
ولئن كان في البداية مجرد "أحلام" الباحثين والمختصين، إلا أنه منذ سنوات قليلة بات حديث العالم بفضل ما بلغه من تطور لافت في مجالات عدة كالتعلم العميق والشبكات العصبية والقيادة الذاتية والطب والصحة والتجارة الإلكترونية والتوصيات والأمن السيبراني وكذا الإبداع الفني.
وتعد محادثات "شات جي بي تي 4 GPT CHAT " أحد أبرز منجزاته لخصائصه المتميزة على غرار قدرته على فهم وتوليد النصوص بشكل طبيعي وشبيه بالبشر مما يجعله أداة قوية للتفاعل اللغوي، والتعليم، وتوليد المحتوى. كما يمكن دمج GPT CHAT مع تقنيات أخرى مثل الروبوتات، الواقع المعزز، وأنظمة التعلم الذاتي مما يعزز من قدرته ويوسع نطاق تطبيقاته.
وعموما يعتمد الذكاء الاصطناعي على أنظمة التعرف على الوجوه والأصوات والأشكال، مما جعل استخدامه واسع الانتشار في الحياة اليومية وفي الكثير من المجالات المختلفة. إذ يستخدم في الصناعة والتحكم الآلي والنظم الخبيرة والطب والأحياء والتعليم وحتى الألعاب.
كما يستطيع التعرف على الكلام، وتحويله إلى نص مكتوب، ويستمع للمتحدث ويطبق ما سمع ويجيب أيضا، ويولّد الرسائل الصوتية من النصوص المكتوبة.
رهان قائم
في الجزائر أخذ موضوع الذكاء الاصطناعي (AI) حيزا هاما من الاهتمام الرسمي والشبابي خلال الفترة الأخيرة. فقد بات الإهتمام به، كجزء من التكنولوجيا المتطورة، يتزايد بشكل لافت ومن مستوى لآخر، في ظل مبادرات حكومية تهدف إلى تطويره وتعزيزه بغية الاستفادة منه في قطاعات أساسية مثل التعليم العالي والتربية والصحة والطاقة والتنمية المستدامة.
وتبدي السلطات العليا في البلاد اهتماما متزايدا بالموضوع، وهو ما يترجمه قرار رئيس الجمهورية، قبل سنتين، باستحداث مدرسة وطنية عليا للذكاء الاصطناعي مقرّها سيدي عبد الله (غربي الجزائر العاصمة) كأول مدرسة للذكاء الاصطناعي في أفريقيا والعالم العربي أنيطت بها مهمة تدريس وتخريج المهندسين المتخصصين في نظرية الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات.
ويدرس اليوم بمدرسة سيدي عبد الله 378 طالب بين قسمَيْ السنة الأولى والسنة الثانية، ويُرتقب أن تتخرّج أول دفعة للمهندسين المتخصّصين في نظرية الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات سنة 2026. ويشهد التخصّصُ إقبالا كبيرا من طرف حاملي شهادة البكالوريا (شعبة رياضيّات) حسب ما أوضح مديرها البروفيسور عبد المالك بشير للإذاعة الوطنية، مبرزا أن طلبة المدرسة يخضعون لنمط دراسة مرتفع، كما يستغلون كل الإمكانيات لتجسيد مشاريع وشركات ناشئة حيثحصلوا على بعض الوسوم فيها. وأشار إلى أن المدرسة تتطلع لتخريج مهندسين وإطارات مؤهّلة للتحكم في الذكاء الإصطناعي في ظل الطلب الكبير عليهم.
أضاف: "يتم العمل على ابتكار منظومة للذكاء الاصطناعي والقدرة الحوسبية، بالتزامن مع المسار القائم على دعم المشاريع الجامعية البحثية وتحويلها إلى مشاريع منتجة. كما نسعى لإدخال الذكاء الاصطناعي إلى قطاع الفلاحة، وذاك موصول بتوفر البيانات ونعمل سويّة مع متخصصين، والتعاون سيكون مثمراً”.
ونوه البروفيسور بالجهود الكبيرة التي تبذلها الجزائر من حيث الإنفاق في التكوين والرقمنة والبنية التحتية، وتخطيط مدرسة الذكاء الاصطناعي لتمكين الطلبة من تربص ومواد جديدة على أهبة إعداد مشاريع التخرج تقدّم القيمة المضافة للاقتصاد الوطني.
إلى جانب ذلك فقد تم إعلان " 2023 سنةً للذكاء الاصطناعي"، وهي المبادرة التي أطلقتها وزارة التعليم العالي وكان من أبرز مظاهرها إنشاء مجلس علمي للذكاء الاصطناعي الذي يعد، حسب القائمين عليه، هيئة استشارية علمية تتولى مهمة اقتراح عناصر إستراتيجية لتطوير الذكاء الاصطناعي عبر القطاعات الوزارية.
إلى جانب ذلك ركزت الجزائر على إنشاء مؤسسات متخصصة والزيادة الكبيرة في المختبرات المخصصة للذكاء الاصطناعي عبر الجامعات ومراكز البحث.
وفي هذا الإطار بادرت جامعة الجزائر 1 في فبراير 2023 ، كأول جامعة جزائرية، إلى إنشاء دار للذكاء الاصطناعي في حفل شهد استقبال 13 جامعه بـ 40 مشروعا في الذكاء الاصطناعي حيث قام الطلاب أصحاب المشاريع بتقديم شروحات وافية لمشاريعهم. وانتهت العملية بتنصيب أزيد من 17 دار للذكاء الإصطناعي بأغلب جامعات الوطن.
كما أنجزت الوزارة 54 منصة رقمية قبل أن تطلق قبل أيام المنصة رقم 55 وهي منصة الذكاء الاصطناعي لحاملي بكالوريا 2024، وهي المنصة التي صممها طلبة المدرسة الوطنية لطلبة الذكاء الإصطناعي بسيدي عبدالله.
بالإضافة إلى ذلك، تحصي وزارة التعليم العالي 94 حاضنة أعمال للطلبة و84 دار مقاولاتية و87 مركزا للدعم التكنولوجي والابتكار، مع أكثر من 10 آلاف مشروعٍ مؤهَّلٍ ليكون “مشروع مُبتكِر”، و5 ديار للذكاء الاصطناعي عبر التراب الوطني.
من جانبه بادر قطاع التربية إلى خوض تجربة مماثلة حين أطلق في سبتمبر الماضي "المدرسة الرقمية" التي تساعد المؤسسات التعليمية على علاج الكثير من النقائص وإيجاد الحلول بفضل البيانات التي تحوز عليها بفضل تقنية الذكاء الاصطناعي. كما أطلق في مايو الماضي تجربة التسجيل الرقمي لتلاميذ السنة الأولى إبتدائي للموسم الدراسي المقبل.
ومن المقرر تدعيم القطاع بـمؤسسات رقمية أخرى عبر معظم ولايات الوطن في خطوة تعول عليها الوزارة كثيرا لتحقيق بعض الأهداف الأساسية لمشروعها الجديد والمرتبط أساسا بتحسين مستوى التلاميذ والارتقاء به وربطه بتقنيات التعليم الحديثة.
التزام رسمي
وعلى غرار المؤسسات والمبادرات الحكومية، فقد دخل عدد من الشركات الناشئة، العاملة في بعض المجالات مثل تحليل البيانات، التجارة الإلكترونية، والرعاية الصحية، دخلت على الخط من خلال تركيزها على تطوير حلول تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتنظيم مسابقات وفعاليات مثل الهاكاثونات (Hackathons) التي تشجع الشباب والمطورين على ابتكار حلول تقنية مبتكرة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
ويرى علي كحلان، وهو استشاري في التحول الرقمي والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، أن اهتمام الجزائر والتزامها بالذكاء الاصطناعي "يعكس اعتراف الجزائر بالأهمية الإستراتيجية لهذه التكنولوجيا للقدرة التنافسية والابتكار على المستوى الوطني والدولي".
ويشدد المتحدث على أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في بعض المجالات للمساهمة في التنمية الوطنية مؤكدا أنه بإمكانه (الذكاء الاصطناعي) أن "يحدث ثورة في التعليم والاقتصاد من خلال توفير إمكانيات الأتمتة Automation)) وتحليل البيانات" بحسب ما جاء على صفحته بموقع "لينكد إن".
وأوضح " في التعليم تستخدم منصات مثل كورسيرا الذكاء الاصطناعي لتخصيص التعلم، بينما في الاقتصاد يساعد الذكاء الاصطناعي على التنبؤ باتجاهات السوق وتحسين العمليات التجارية، على سبيل المثال" .
أي مستقبل للذكاء الإصطناعي بالجزائر؟
يتوقع الكثير من الخبراء والمختصين أن يتخذ الاهتمام الذكاء الاصطناعي أبعادا أوسع في المستقبل، بل والتخصص فيه على شكل واسع خاصة في ظل اهتمام الجزائريين بعالم التكنولوجيا والتقنية والابتكار عموما.
ويمضي الخبير بعالم التحول الرقمي والأمن السيبراني، علي كحلان، إلى القول إنه ينبغي للذكاء الاصطناعي في الجزائر أن يصبح أكثر حضورا في كثير من التخصصات، وأن يتكامل في مجالات متنوعة مثل الصحة والتعليم والصناعة والبيئة.
ويعتقد المتحدث أنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية لتشخيص الأمراض وعلاجها، أو في صناعة النفط أو في الزراعة من خلال إدخال تقنيات إدارة المحاصيل استنادا إلى تحليل البيانات.
ويضيف أنه يمكن أن يشهد مستقبل الذكاء الاصطناعي في الجزائر مراجعة برامج التدريس في المدارس، وتطوير تطبيقات خاصة بالاحتياجات المحلية. كما يمكنه أن يوفر للجزائر فرصًا لتبادل المعرفة وتبادل الباحثين ومشاريع البحث والتطوير المشتركة.
من جانبه يرى مراد بوعاش، الباحث الجزائري في "سيليكون فالي" بولاية كاليفورنيا الأميركية، أن "مستقبل الذكاء الاصطناعي في الجزائر متواجد في الميدان الطاقي، بالنظر إلى إمكانيات البلد الكبيرة في الطاقة سواء الأحفورية أو المتجددة".
وخلال محاضرة ألقاها في ديسمبر 2022، ألح على "ضرورة تعميم الرقمنة لإخراج البيانات، فالرقمنة هي بمثابة الكهرباء الجديدة والبيانات هي نفط المستقبل".
وبالرغم ما يواجهه تطوير الذكاء الاصطناعي في الجزائر من تحديات مثل نقص الخبرة وقلة التمويل وغياب البنية التحتية اللازمة، إلا أن المستقبل يبدو مشرقا لهذه التكنولوجية ببلادنا في ظل الاهتمام الرسمي والمبادرات الحكومية وكذا الشغف الشبابي ووجود كفاءات جزائرية عالية المستوى بالمخابر العالمية بإمكانها أن تشكل القاطرة الأمامية بغية الدفع بالتقنية الحديثة ببلادنا للأمام، وهو ما يوحي بأن الثورة المقبلة بالجزائرستكون في .. الذكاء الاصطناعي !
عياش سنوسي