في وجه التسييس الفرنسي.. الجزائر تتمسّك بالقانون والسيادة
Image
مهدي عايدي

تتجدد فصول التوتر في العلاقات الجزائرية-الفرنسية، وكأنها مرآة تعكس عمق وتعقيد تاريخ يرفض أن يغادر الحاضر. وفي أحدث تصعيد، أثار وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، جدلاً واسعًا باعتراضه على قيام القنصليات الجزائرية في فرنسا بإصدار جوازات سفر لمواطنين جزائريين يقيمون على الأراضي الفرنسية، حتى وإن كانوا في وضعية غير نظامية. هذا الموقف الفرنسي، وإن ادّعى الدفاع عن سياسة الهجرة الداخلية، إلا أنه يتجاهل عمدًا مبادئ راسخة في القانون الدولي، ويُشكل مساسًا مباشرًا بالسيادة الجزائرية. فما هي حقيقة هذه المزاعم في ميزان القانون الدولي؟

بين اتفاقية فيينا ومواثيق الأمم المتحدة.. القانون الدولي يُنصف الجزائر

إن ما تقوم به الجزائر هو ممارسة طبيعية وراسخة لحقها السيادي وواجبها تجاه مواطنيها، وهو حق لا يمكن لأي دولة أجنبية أن تعترض عليه من الناحية القانونية. فالجزائر بهذا التصرف، لا تحترم فقط الالتزامات الواقعة عليها بموجب القانون الدولي، بل وتُحافظ على حقوق الإنسان لمواطنيها وتدافع عنها بقوة. الأساس في ذلك يعود إلى ركائز القانون الدولي العام:

1.     السيادة القنصلية المتأصلة بموجب القانون الدولي: تُعد صلاحية إصدار وثائق الهوية والسفر، وعلى رأسها جوازات السفر، من الوظائف الجوهرية للبعثات القنصلية حول العالم. تنص المادة الخامسة من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963، وهي معاهدة دولية ملزمة صادقت عليها كلتا الدولتين، بوضوح على أن وظائف القنصلية تشمل "إصدار جوازات السفر ووثائق السفر لمواطني الدولة الموفدة". الأهم في هذا السياق هو أن هذه الصلاحية غير مشروطة أبدًا بوضع الإقامة القانوني للمواطن في الدولة المضيفة. المعيار الوحيد هنا هو الجنسية؛ فالدولة ملزمة برعاية مواطنيها أينما كانوا، وتوفير الوثائق التي تثبت هويتهم وتضمن حقوقهم.

2.     جواز السفر: الأداة الجوهرية لتفعيل الحق في التنقل: إن توفير وثائق الهوية والسفر للمواطنين الجزائريين هو التزام أخلاقي وقانوني يخدم حقوق الإنسان الأساسية المكفولة دوليًا. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 13)، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 12)، الذي دخل حيز النفاذ في 23 مارس 1976، يؤكدان على الحق في حرية التنقل، ومغادرة أي بلد (بما في ذلك بلده)، والعودة إليه.

هنا تكمن الأهمية القصوى: جواز السفر ليس مجرد ورقة إدارية، بل هو الأداة العملية التي لا غنى عنها لتفعيل هذه الحقوق الجوهرية، وتحويلها من مجرد مبادئ نظرية إلى واقع ملموس. فكيف يمكن لمواطن أن يمارس حقه في مغادرة وطنه أو العودة إليه دون وثيقة سفر رسمية معترف بها؟ إن حرمان أي مواطن جزائري من وثيقة سفر رسمية، لأي سبب كان يتعلق بوضعيته في دولة أخرى، سيكون بمثابة انتهاك مباشر لحق أصيل من حقوقه الأساسية المكفولة دوليًا. وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في تفسيراتها وأحكامها، وعلى سبيل المثال في قضية De Brún v. Ireland (2000)، أن حرمان المواطن من وثيقة السفر دون مبرر قانوني مشروع يُمكن أن يُعد انتهاكًا لحقه في حرية التنقل. وبما أن الجزائر لا تحرم مواطنيها من هذا الحق، بل تمكنهم منه، فإن موقفها متوافق تمامًا مع هذه المبادئ. فالجزائر، انطلاقًا من مسؤوليتها السيادية والإنسانية، لا يمكن أن تتخلى عن واجبها في توفير وثائق لمواطنيها الذين قد يجدون أنفسهم في وضعيات صعبة بالمهجر، وهي وثائق أساسية لا لعودتهم فحسب، بل لتسوية أوضاعهم إن أمكن في أي وقت.

3.     لا يوجد حظر قانوني دولي: يجب التأكيد أنه لا يوجد في القانون الدولي أي نص يمنع دولة من إصدار وثائق هوية لمواطنيها، حتى لو كانوا مقيمين بشكل غير نظامي في دولة أخرى. هذا الأمر يُعد جزءًا أصيلًا من ممارسة الدولة لسيادتها على مواطنيها. المحاكم الدولية الكبرى، كمحكمة العدل الدولية، لم تنظر قط في قضايا تطعن في هذا الحق السيادي، بل على العكس، فإن قضايا الجنسية والحماية الدبلوماسية (مثل قضية نوتيبوم الشهيرة عام 1955) تُبرز أهمية الرابط بين الفرد ودولته الأم، وهو رابط يتجسد في وثائق الهوية.

تصريحات روتايو.. بين الشعبوية الانتخابية ومأزق اليمين الفرنسي

إن اعتراض وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، ليس جديدًا في طبيعته، ويعكس توجهاً فرنسياً متشددًا تجاه ملف الهجرة. هذا التوجه هو سمة مميزة لسياسات اليمين المتطرف، الذي يجد فيه روتايو مساحة لزيادة تطرفه في موقعه على رأس وزارة الداخلية. إن ادعاءه "عدم الاعتراف" بهذه الجوازات لأغراض الإقامة، هو محاولة لممارسة ضغط سياسي على الجزائر، وربما استجابة لاعتبارات انتخابية داخلية في فرنسا أكثر منها مقاربة قانونية.

لقد تأججت هذه المسألة بشكل كبير بسبب رفض الجزائر لترحيل مواطنيها من فرنسا في بعض الحالات. هذا الرفض الجزائري ليس تعسفيًا، بل غالبًا ما يأتي في سياق يمس بالقواعد المعمول بها في القانون الدولي العرفي، لا سيما تلك المتعلقة بقواعد الطرد المقرة من قبل لجنة القانون الدولي. فقد تبنت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة "مشروع المواد بشأن طرد الأجانب" في عام 2014، والذي يعكس قواعد القانون الدولي العرفي في هذا الشأن ويضع قيودًا واضحة على سلطة الدول في طرد الأجانب. هذه القواعد تشترط ضمانات إجرائية صارمة، وتحظر الطرد الجماعي، وتلزم الدول باحترام كرامة الأفراد وحقوقهم الأساسية خلال عملية الترحيل. إذا كانت إجراءات الترحيل لا تلتزم بهذه المعايير الدولية، أو لا توفر الضمانات الكافية لحقوق الأفراد، فإن الجزائر تحتفظ بحقها السيادي في تقييم كل حالة على حدة، وفي رفض استقبال مواطنيها إذا كانت هذه الإجراءات تتنافى مع القانون الدولي أو كرامة مواطنيها.

تتجاهل هذه التصريحات حقائق أساسية: ففرنسا، كأي دولة، لها الحق في تنظيم سياستها الخاصة بالهجرة وتطبيق قوانينها الداخلية، ولكن هذا الحق لا يمكن أن يتجاوز حدود السيادة الوطنية للدول الأخرى أو يمس بحقوق مواطنيها الأساسية. الخلاف الحقيقي هنا لا يتعلق بشرعية إصدار الجزائر للوثائق، بل بمدى تعاون الدولتين في ملف ترحيل المهاجرين، والجدل حول الاتفاقيات الثنائية القائمة، كـاتفاقية 1968 التي تنظم حركة الجزائريين في فرنسا.

بدلاً من الخطاب التصعيدي الذي لا يخدم إلا تأجيج التوتر، ينبغي أن يكون التركيز على الحوار البناء والتفاوض الدبلوماسي لإيجاد حلول عملية وملزمة للطرفين. إن التحديات المتعلقة بالهجرة تتطلب مقاربة شاملة تقوم على التعاون الدولي، لا على فرض الإملاءات أحادية الجانب أو تجاهل المبادئ القانونية الراسخة.

الحوار لا التصعيد.. سيادة الدول لا تُناقش إعلاميًا

تؤكد هذه الأزمة المتجددة على أن العلاقة بين الجزائر وفرنسا، بتاريخها المعقد وثقله، لا يمكن أن تُدار بمنطق الاستعلاء أو التضييق على حقوق الدول. إن الجزائر، بدفاعها عن حقها في إصدار وثائق لمواطنيها، تؤكد على سيادتها الكاملة والتزامها بمسؤولياتها الدولية تجاه أبنائها، وهو موقف راسخ لا يمكن التراجع عنه.

إن المسار الصحيح لتجاوز هذه الأزمات يكمن في العودة إلى مبدأ الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، والالتزام الصارم بالقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية. بدلاً من محاولات فرض الإملاءات التي لا تنتج سوى المزيد من التوتر، يجب أن تسود روح التعاون البراغماتي والحوار الصريح الذي يضع المصالح المشتركة فوق المناكفات السياسية. الجزائر، بتعاملها مع هذا الملف، تؤكد التزامها الكامل بمسؤولياتها الدولية، وتدعو فرنسا إلى اتباع نفس المسار القائم على الشرعية الدولية والاحترام المتبادل لبناء علاقة قوية ومستقرة تخدم مصالح الشعبين.

بقلم: الباحث والخبير في القانون الدولي مهدي العايدي

مقالات الدولية
في أجواء وطنية خالصة، نظّمت القنصلية العامة للجزائر بتولوز احتفالية مميزة بمناسبة الذكرى الـ62 لاسترجاع السيادة الوطنية، حيث امتدت على مدى ثلاثة أيام وشهدت مشاركة واسعة للجالية الجزائرية، التي توافدت ...